تجمع شعراء المغرب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


أول تجمع أدبي شعري مغربي
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الزلطيات

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
الأستاذ الدكتور
شاعر
شاعر



المساهمات : 22
تاريخ التسجيل : 29/08/2009

الزلطيات Empty
مُساهمةموضوع: الزلطيات   الزلطيات I_icon_minitimeالجمعة سبتمبر 11, 2009 4:41 pm

الزلطيات Icon_biggrin كان الشاعر فيصل مفتاح الحداد دائماً يذكر هذا الشيخ الجليل الذي تطل العبقرية من عينيه ، ويبدو الوقار على صفحتي وجهه ،وتراه ممتد الطول ، ممتلئ البدن ، جميل المحيا ، وكان قد كتب على باب داره بيتاً يقول :



لو دارنا نطقت قالت لزائرها أهلاً وسهلاً فعين الله ترعاكا

قرأ الشاعر البيت وتبادر إلى ذهنه أنه مشغول ، لأن رعاية الله تصاحب الخارج لا الداخل ، ثم نظر إلى هذه الفاء التي تفيد التعقيب دون إمهال ، نعم هو يضرب عصفورين بحجر واحد ، فهو يرحب بضيفه ـ كما جرت عادة العرب ـ ولكنه يطلب إليه من طرف خفي ألا يطيل الزيارة ، وذلك لضيق وقته ، وعجب كيف اتفق له الجمع بين معنيين بعيدين في آن واحد ، ثم مضى زمن عرف من خلاله

أنه حاضر البديهة ، سلس القول ، ولم ير بديهة كتلك التي يتمتع بها أستاذه

الدكتور عبد الرحيم زلط ، فهو يقرض الشعر في أي موقف يصادفه دون عناء ،

ويباغث شاعرنا ببيت يرسله فجأة ويقول : قل ، فيقول في الحال ما يحضره .

والمهم في الأمر أنه طرق الباب ، ففتحته فتاة تعمل بالشقة ،وقالت : إن د. عبد الرحيم ليس موجوداً فناولها رقعة ، وطلب إليها أن تسلمه إياها بعد مجيئه ، وكتب فيها :



قلتُ لداركَ لما جئت زائــرَها يا دار كم فــــيك من أطايب الناس!

كم فيك من قلم يسمو ومحبرة كم من كــتـاب وأوراق وقـــــرطاس

لقد نزلت من الأيام مــنــزلة فالمجد رأس وأنت المجد في الراس





ومر ببيته يوماً ـ وقد طلبه ـ فلم يجده ، فقال البواب :لقد ذهب الأستاذ منذ قليل ، فكتب له رقعة فيها :



نفسي تحدثني بأنك طالبي عبد الرحيم فعدت تواً راجعا

ولقد مررت فقال لي بوابكم ذهب الإمام فما ترانيَ صانعا ؟



فقال ببديهته المشهورة :

فذهبت أسرع كي ألبي موعداً وأكون رهن إشارة لك طائعا

فقال : وأنا رهن إشارتك .



وكان عبد الرحيم يطبع كتبه في مطبعة ، وله معها معاملات ، وكان عاتباً على صاحبها أبي العينين ، فأنشد أبياتاً ـ لم يحفظها الشاعر ـ تدل على ضيقه وتبرمه وقال : قل . فقال :

ولقد هممت بأن أقوم بصفعه جراء إتعابي بغير فوائد



بعد أيام عهد إليه الشيخ عبد الرحيم أن يستعجل المطبعة في طبع كتابه فمر بها واستعجل أصغرهم ، ولكنه لسوء الحظ أصاب إصبعه بالمقص ، فعاد أدراجه وكتب له :

لما دفعت العاملين لينجزوا ورغبت في استعجال أهل المطبعهْ

أهوى الصغير إلى المقص بكفه فأصــاب من فرط التعجل إصبعه

ولذا عزمت على المسير إليهم عند الصـــبــــاح يقصها وأنا معه

فماذا ترى ؟ فكتب في الرقعة نفسها تحت هذا المكتوب :



اذهب حباك الله كل فضــيلة من عنده ، يقف الجميع له معهْ

وترى المقص وقد أجاد صناعة في القطع ليس له أصابع مشرعهْ

إن الذي مـنـح الـكنانة فضله أضفى عليك من الفضائل أربعهْ

علم وخلــق واكتســاب مودة وســـــماع قول فيه تبدو مربعهْ



أما أهل المطبعة فقالوا لشاعرنا : لابد أن تكمل القول فينا ، فقال :



وهشام خير من أخيه صناعة أما إهــــــاب فليس يدري مصنعهْ

لكنه ما زال يعـطـي جـهده حتى يؤثــــــر في الــزبون ويقنعهْ

وأبوهما يغلي الغراء وينتحي يضع الغلاف على الكـتاب ليقطعهْ

حتى إذا تم الكتاب وقطعت أجــــزاؤه أخـــذ الـنـقـود ليدفعهْ



ثم إن شاعرنا تفقد الشيخ فلم يجده ، فأعانهم قليلاً وقال :



أخذت قسمتي مما طبعتم دعوني أستــريح ولـــــو قليلا

وما أتم إنشاد هذا البيت حتى دخل الشيخ يحمل بين راحتيه دواء ، وقال :

فإني قد ذهبت إلى الطبيب يـــــداويني وكنت له عليلا

فقال صاحبنا منزعجاً : ماذا ؟ ذهبت إلى الطبيب ! قال : نعم . فقال :

أليس وقد ذهبت وغبت عنا وعــــدت محملً حملاً ثقيلا

تقول بأنــك دنــف مريض وتـبــقى في الفراش لذا نزيلا



وفي مرة أخرى زار شيخه ، وكان معه د. الجطلاوي ، فأجلسهما الشيخ قربه ، وأخذ يحدثهما عن العلم وأهله وقال لهما :



فخذ م العلم ما اسطعتم لوقت يــهــان به الكريم فلا يبالي

فإن الـعـلـم يـجـلو صـدر قوم ويحشـو القلـب دوماً بالآمال

فـنـعـم الـــزاد تـــأتيه شهياً وتــأخــذه وأنـت بلا تـعالي



وفي الطريق كان يرسل أبياته دون حصر ، فلا تكاد عيناه تقعان على شيء إلا قال فيه ، فكان صاحبنا يتم له ما يقول ،ويجيز كل ما يسمع ،وقال وقد أبصر رجلاً طويلاً :

تطاول للسماء فقلت نخلاً ....

أجز . فقال صاحبنا : طويل الباع ممشوق القوام

وهكذا كان في سنوات عدة ، حتى استطاع أخيراً أن ينظم الشعر على البديهة .

وقال الشيخ عبد الرحيم لما سمع آذان المغرب يوماً :

ونودي للصلاة فقلت هيا لذكر الله نـبـتــــهــل ابـتـهـالا

وقام إمامنا للقــوم يدعو وكــــان الــكــــــل في نور تلالا

أحاط الله بالأنوار جمعاً بآيات الكـتـــاب تـقـول لا ، لا

لكل مباعد عن فعل خير ويـــــدعــــــو للضلال فلن ينالا

فإن الله يحفـظ من يلبي ويـخـشى الله في قــــول تعــالى





أما حذاء الشاعر فكان مغرماً به ، لأنه يبدو كبيراً في نظره ، ولطالما حظي منه هذا الحذاء بأبيات رائعة كلما تأخر في شده وإحكامه ، ويكفي أن يراه فينشط ملاك شعره ، وفي مرة عزم الشاعر على الخروج من بيته ، فأمسك حذاءه وشغل شيخه بالحديث حتى لا يتفطن إليه ، محاولاً لفت انتباهه إلى شيء آخر ،ولكن هيهات فقد ابتسم الشيخ ، ولمعت عيناه ، وبدا واضحاً أن بيته في الطريق إليه ،وإذا به يقول :



سئمت القول في الملعون حتى فما أدري اليمين من الشمال



فقال شاعرنا معاتباً له برفق : إلى كم تلعن هذا الحذاء المسكين ! وإني لأهم بنصرته فقال :

والله لتفعلن ! فقال :

حذاء قد سررت به ثمــين بــــراه الله من خيــــر النعال

لطيف اللون ضاف جانباه وقـــــد رزق الكثير من الجمال

عــــلام تذمه بالقول ظلماً وتسـمـعــــــه الغليظ من المقال

ومع ذلك فما دام هذا الحذاء لا يعجب الشيخ ، فقد أحضر صاحبنا حذاءً صيفياً خفيفاً فلما رآه هلّل وكبّر ، وابتهج لمرآه وقال :

خفيف الظل يا ما أنتعله

أكمل البيت ...فقال :

خـفـيـف الـظـل يا ما أنتعله كأنك قد خلقت من النسيم

وقال الشيخ عنك خفيف ظل لما يـبـدو عــليك من النعيم



فقال الشيخ وقد حمي للقول :

فإني أنتعلك من الصباح وأمشي فيك للبيت الكريم

أقابل فتية أحنو عليهم حنو الوالد الشهم الرحيم

وفي ليلة من ليالي مولد السيد البدوي ،خرج معه بصحبة رفيقه الجطلاوي ليريهما الاحتفال ، وكان يحمل مصباحاً صغيراً ، استعداداً لعبور السكة الحديدية

وكانا حوله يخشيان عليه أن يصاب بأذى ، أما هو فكان سعيداً يرسل أبياته كعادته يصف وعورة الطريق ، وما يلقونه من جهد في عبور السكك ، وأخذ شاعرنا سهو انتبه منه على قوله :

من الأشواك والأسلاك حتى

أجز .... فقلت بصوت خافت ، وهو لا يدري ما قافيته الفائتة :

حذائي ما يطيق من الحديد

ولمحت عيناه بائع الخبز فقال :

كأن الخبز للأفواه يبدو

فقال شاعرنا وهو شبه نائم : دع هذا الكسول ، لقد أخلد إلى النوم ...

************

وبعد برهة تذكر هذه الفسحة ، وبدا له تلك السعادة التي غمره بها شيخه ، وأحس أن علاقته بالدكتور عبد الرحيم ليست علاقة نفعية أبداً ، وإنما هي علاقة روحية بحتة ، فكتب إليه في رقعة يقول :

شيخي د. عبد الرحيم زلط :لا أدري ماذا أقول ، وقد غمرتني بأفضالك ،وآنستني بحنانك ، وعوضتني عن غربة الأهل والولد ، وها أنا ذا مقيم إلى جوارك ألتمس فيك الأبوة ، وأنظر إلى الدنيا بمنظار جديد .



ألا تذكر يوم أخذتنا معك يوم ميلاد السيد البدوي ، وأمسكت بيدي خشية أن أقع عند عبورنا للسكك الحديدية ، كان هذا اليوم الأول في حياتي الذي أحس فيه

أن حياتي تهم أحداً ، وشعرت فيه بدفق الحنان الأبوي الجارف ، فعدت وقد استطرت فرحاً ، وهذا المصباح الصغير الذي حملته معك ، لقد رأيت فيه رمزاً للطريق العلمي الصعب الذي مشيناه سوياً ، وهو يبدد الظلام ، ويهدينا سواء السبيل ، ولذلك قلت :

عبد الرحـيـم إذا ما زهرة فتحت أو زقزق الطائر الغريد أو سجعــا

يبدو لعـيـنـيَّ بين القوم مـبـتسماً كأنما النور في الظلماء قد سطــعـا

أنت الذي يعجب الإنسانَ طلعتُهُ ويشغل الفكرَ فيما قلتَ واستمـعــا

وتنتشي الروح من إحسانه فرحاً ويحتسي العقل من أقلامه جرعــا

ألا تــرى هــــذه الجوزاء مطرقة إذا طلعتَ وأنف الشمس قد جدعا

نفسي فداؤك من علم على أدب وزادك الله من ألـطـافـــه ورعــــا

لا غرو إذ فخرت مصر بكاملها وردد الشــرق مـــن أصــــدائه لمعا



وزاره يوماً وقد نظر مشرفه الآخر د. حسن عباس في أطروحته فأجال فيها نظرات فاحصة ، فقال له د. عبد الرحيم : ما فعل معك فلان ؟ فقال :

نقد الرسالة والفصول فأصبحت من فعله ما يستبان جميلها

ظهرت كأن الرامسات أصـبنها فتبدلت من قرعهن فصولها

فقال أبياتاً عدة يكمل بها قوله .







ولما أراد الشيخ أن يزور صديقاً له مريضاً دعا الشاعر لمرافقته ، وفي الطريق دخل محلاً لبيع الزهور ، ونظر خارج المحل فإذا السماء تسكب غيثها ،ونظر داخله فإذا الزهور والورود والرياحين ، ولما راقه الزهر همس في أذن شيخه :



زهور تبدت يا رحيم كأنها ربيع تراه في الشتاء ربيعا

فسمعه صاحب المحل ولهج بالبيت ، فقال الشيخ :



تراها تفيض في الأماكن بهجةً وتعطي لرائيها الثناء وديعا



وطلب صاحب المحل ( وهو عميد كلية الزراعة ) من عامل عنده أن يأتي بالمشروب على وجه السرعة ، فقال د. عبد الرحيم لشاعرنا : زده بيتين فوق هذه الأبيات فقال :

أتطلب زهراً كي يفوح بعبقه ويبــــدو لعين الناظرين وديعا

وأنت بعطر قد غبقت أنوفهم فصارت إليك السامعات نزوعا

ثم إنه دخل على مريضه يعوده ، وخرج بعد برهة ، فقال له :

كيف الصديق الذي قد زرته دنفاً هل حسنت حاله أو يشتكي الوجعا

فما أراك وقــد طـيـبـت خاطـره إلا تـمـطـى عـلـى أوصــابــــه دلعا

فقال الشيخ مبتسماً :

إني وجدت الذي قد زرته فـرحاً مـن طـيـب قـــول أراه اليوم مستمعا

في عدة أبيات قالها..

ولما أراد الشيخ أن يذهب إلى ( قويسنا ) لزيارة د. جمال عيسى قرر أن يصحب الشاعر والجطلاوي معه ، وفي الطريق وضع صاحبنا إصبعه على زر الزجاج وفتح نافذة السيارة ـ وكان الوقت شتاءً ـ فانهمر المطر بغزارة ، وضرب البَرَد زجاج السيارة فقال الشيخ وقد ارتعد من البرد :

فتح النوافذ كي يـــــطيِّر شعرةً والبرد يدخل في الدماغ الأصلع

وأصيح من لسع البراد بمهجتي وأقول أغلق إن فعلك موجـعي

أغــلق هــــداك الله إنك مؤلمي فالبــرد يؤذيني وينزل أدمـعي

وتحركت منـه الأنــــامل عنوة وكأنه يــنــسى الزرار بموضـع

ما ذاك إلا للمــزاح بــشيــخه في بـــطـئــه والـعلق لما يصنع

وتبعثرت مني الحروف بلهجة أبنــيَّ هــــذا الفعل لم يتوقع

ســرعان ما نـظر الإلـه برحمة وغدت أشعة شمسه في إصبعي

ومسحت رأسـي في حنان تنعم بـالـــدفء مــــرات ولما تلــمع

يـــا رب هـذا فيصل في كيده قد كدته ،فارحمه عند المرجـع

أشـفــــق به ولترحمنه رحـمة واحـنُ علـيـه حــنـوَّ أم مرضع

فقال شاعرنا :

أغلقت كل نـــوافذي وقفلتها حرصاً على شيب الدماغ الأصلع

رأس حوى كل العلوم فحازها سبق العــبـاد إلى المحل الأرفع

لما فتحت على الرياح نوافذي لم أدرِ شــدة وقــعـــها المتسرع



ثم قال للشيخ : قد مرّ بي زمن جاورت فيه كرمتي عنب بمدينة مصراتة ،

وكنت أداعبهما وأخاطبهما وكأنهما إنسانان حقيقيان ، وقلت فيهما :



يا كرمتي بيــت المـعــافى عشتما وسقــاكمــــا غيث تدوم سواكبهْ

من كل مــزن قـــــد تحدر قطره قـــــد غيبت عند النزول نوائبه

هل تذكــــران وقد سقيت ثراكما كـــــم قبلة فوق الغصين ترطبه

أرسلتــهـــا من خاطري وكأنني غــصــــن أليف للغصين يلاعبه

أبــقـــى إذا غاب الـرفاق بقربه وأبــثـــه حــتـــى تلين مناكبه

طــوراً أداعب في الغصون وتارة أرنــــو إلى جذع الغصـون أعاتبه

ولـقــد بـــقــــينا برهة وكأننا أخوان في بــيـــت تمـنـع جانبه

يهــمـي عليه القطر كل عشية ونسـيـــــم أمواج البحار يــداعبه

وحمـــاكما بيت المعافى حقبة وكــفــــاكــمـــا أطياره وملاعـبه

فعليكما مني الســـلام ودمتما ورواكــمــا فــيـــض غزير صائبـه



فقال الشيخ :

إن الكروم مع الرجال أوانس فكأنها فوق الأرائك تضحك

فيميل من فرط التشوق نحوها ويضمها في نشوة لا تــمسك

ويبيت يحلم بالجلوس بظلها فرحاً يداعب مقلتيه يدعــك

حتى إذا كان الصباح بغدوة فزع الصبي لحبها يتصعلك

وتمايلـــــت تدنو إليه برقَّةٍ فكأنَّـه من حبِّها يتـحكَّـك

وكم لطيف هذا الشطر الأخير ، فلم أفهم كيف يتحكك الإنسان من الحب ؟

وعلى كل حال فقد كانا يرتجلان ارتجالاً ، دون أن يمسكا ورقة أو قلماً ، وقد يُلقى في روع شيخه أو على لسانه شيء لا يريده فيقول الشيخ :



لحــاك الله شــيــطاناً مريدا تداعب مقلتي يوماً شريدا

فعد من حيث تأتيني بخبث فإنني أبتغي النوع الفريدا

وبحث عن شاعرنا يوماً فلما حضر إليه قال : لديّ مناقشة في بنها لأطروحة دكتوراه فهل أنت ذاهب معي ، فقال له : حسناً سأذهب ، ولما قعد للنقاش بدا لوجهه نور ولمعان وإشراق غير عادي ، فتخيل شاعرنا أنه شمس أخرى قد أشرقت في بنها ، وكتب في أثناء مناقشته :



ناقشتَ أحمدَ يا رحيمُ فأصبحت قاعاته قــد بــددت ظلماتها

لما أتيت إلى المنــصــة وانـتـشت من فرحـها وتفتحت ورقاتها

نظر الجميـع إلى أغــر كــأنــــه شمــس ببنهة مشرق طلعاتها

نطقت فحار السامــعون لنـطقها هل تنطق الشمس المنيرة ذاتها ؟

أكل الأساتذة الـــذيـــن تخيروا مما حــوتــه في الذرا جفناتها

مــن كــــل عـلم لا يرام لطالب مـهـمـا علت في نفسه ملكاتها

ما كل من طلــــب العلوم ينالها حـــتــى تلـيـن بـكفه أدواتها



وفي مرة أخري بعد إتمام الشاعر لأطروحته وفراغه منها ، دخل عليه طالباً السماح له بطبعها ، وبخاصة أنه سمح للجطلاوي بذلك ، وقال له :



هذا محمد قد طيّبتَ خــاطره وهذه رفقتي قد ناقشت قبلي

دعني أطير إلى الطباع مبتهجاً حتى يُعَد إلى أشكالهم شِكْلي

فتبسم الشيخ وقال :



فلتذهب اليوم إلى الطباع مبتهجاً تحدوك عين الإله غانماً قُبَلي

فاستطار صاحبنا لذلك فرحاً ، وذكر له طباعاً قديراً يدعى إيهاب ، ولكنه لسوء الحظ ترك مكانه فقيل له : ربما ذهب إلى شارع الحلو ، فابحث عنه هناك ، فقال الشيخ :



سل الحلو عنه أين صار مصيره فــإني إلى تــلـك الـــــــــديار مشوق

لقد كان طــبــاعاً أميـنـاً بقوله ويحــــفـــظ عــهـــدي دائــما فأفيق



ثم عرف مكانه ، بشارع ( مراكبي ) فقال لشيخه :



ولقد سألت الحلو أين مصيره فأجابني إيهاب عند مـراكبي

يهديك من خير السلام تحية ويهش في وجه الزبــون الآيب

بـــشِّـر رفيقك يا صديقي أنه عثر الغداة على القدير الغائب



وفي مجلس آخر طلب الشيخ من محمد الجطلاوي أن يوقظ صديقه باكراً ، وقال على لسان محمد :

ذهب الصديق ولم أرد إزعاجه إلا لشيء قد عناني طويلا

فذهبـت أطــــرق بابه متوسلاً وأقول يــا رب أراه قلـيـلا



وكان الدكتور عبد الرحيم من المترددين على الإذاعة التلفزيونية القناة السادسة

يلتقون به ليتحدث عن الأدب الشعبي في مصر ، فأخذ صاحبنا معه ، ودخل به إلى قاعة اللقاء ، فهمس في أذنه :



آنست كل الناظرين ببهجة لما غدوت إلى الإذاعة داخلا

فقال :

الله يعلم كم أكابد منهم وغدوت أعدو للبيوت مهرولا



وقال الشيخ لشاعرنا بعد أن لاحظ دبيب النعاس في عينيه ، وكانا إذ ذاك في مكتبه ( مكتب عميد الكلية ) :



أما آن الأوان لكـــــــأس شاي فنشربه من الدنـــيا هــنــيـئـا

فإني قد رأيــــــــت النوم آت إلى عـيـنـيـك في زحــف بطيئا

فتطرده بعــيــــــداً عن مجال حديث القوم فيـــه غدا وضيئا

فأسعد مــن جلوسك بالحديث أوجــهــــــــه إلى نفس بريئا

وتســعــــد قانصاً من كل قول يحلُّ النــَّفــــس وضَّاءً مضيئاً



وأخذ يحرك كرسيّه المكتبي الكبير ،وهو جالس عليه ، فلاحظ أنه مائل قليلاً

فقال :

سئمت من الجلوس على كراسٍ يفيض القول فيها والكلام

فما في قـــولــهـــــم أني أميل إلى قـــــوم حديثهم سلام

هو التصديــق لا شـيـئــاً سواه يبــاعـدنيه في القول الملام

فأسعد كلما جالــســــت قوماً شفاء النفس فيهم والغرام



والتفت إلى صاحبنا وقال مبتسماً : هلا أكملت قولي : سئمت .... فقال :



سئمت من الجلوس على كراسٍ يفيض القول فيها والكلام

جلست على كراسٍ شاهقات كأن مسانــــدي فيها سنام

وكم نظرت إلى الإسفنج عيني فقلت : عليكم منـا السلام



وفي يوم كان صاحبنا تحت شرفة الشيخ يشتري خبزاً فأبصره ، ولم يكن عند البائع كيساً فأخرج له كيساً ورمى به إليه من شرفته وقال أبياتاً ، فقال له :



ورميت كيساً من علو شاهق أردفته عبد الرحــيــم بشعركا

فقبضته قبل الوقوع كأننـي حرس تـناول باليمين وأمسكا



وفي يوم أصاب شاعرنا برد فمرض ، فقال :



وددت بأن أراك لــعـــل ذاك يخــفـــف عــنـيَ الألم الرهيبا

ولو وصل الطبيب لباب داري وكنت إلـيــه مـحـتـاجـاً طلوبا

لكنت إذا رأيتك عــنـد عيني صـحـيـحـاً لا أرجّـيــه الطبيبا



وفي مرة كان الشاعر في ليبيا ، ثم قدم مصر ، فكتب مشتاقاً إليه في رقعة :

تـجــدّد الشــوق في قلبي فأرقه كيف السبيل إلى السلوان والجــلد

مـا مــــر ذكركم يوماً بخاطرنا إلا وجــــدت له برداً على كبدي

إن كان لقياكم يهــدي السرور فـما لي لا أسرُّ بهدء البالِ والخَلَدِ



وفي مرة أخرى سمع أن ابن الدكتور حسن عباس ويدعى مراد ، قد أصيب في حادث سيارة ، فذهب الشاعر ليعوده ، وبعد زيارته له ، كتب للدكتور عبد الرحيم يروي له التفاصيل بأسلوب مسجّع كأسلوب المقامات مداعباً له:



شيخي الجليل الفاضل ، زهو المجالس والمحافل ، الدكتور عبد الرحيم .

بسم الله الرحمن الرحيم

توجهت ـ أبقاك الله ـ إلى الإسكندرية في رفقة طنطاوية في يوم أحر من الجمر

وأشد من الكر ، وأصعب من الفر ،يوم القتال المر ، فكاد الهواء أن يشتعل ، والنور أن ينفعل ، مما جنته الشمس على الحواس الخمس ، وأخذت أجد السير وأستعجل الغير حتى كادت السيارة أن تطير ، وتسلك مسالك الطير ، وتناهى دولابها السريع ، وصوتها المريع ، ولم تزل تسير جهدها ، ويمسح الأرضَ خدُّها

حتى أوقفتنا ،وعلى أرض المدينة وضعتنا ، وطلبت إذ ذاك برج العرب ، وأخذت

أجد في الطلب ، كالباحث عن الذهب ، فإذا هو بنواحي الغرب ، فقلَّتنا من فورنا المراكب ، وتشعبت بنا المذاهب ،وأخذ مكانَه كلُّ راكب ، وانطلق بنا السائق ، وكأنه السهم المارق ، وما زال بين خفض وارتفاع ، ونجد واتضاع ،

وجهد فوق المستطاع ، حتى بلغناه بعد كد ، ونزلناه بعد جهد ، وقد جزنا مظلمات الحنادس ، وترهات البسابس ، سرنا وقد جلدنا بسوطه التعب ، ووخزنا

برمحه النصب ، فكان وصولنا إلى ذلك البرج ، إيذاناً بالفرج ، ورفعاً للحرج ، أحسن من دوام النعمة ، ومن فرحة إثر غمة ، فقلت : صدق والله القائل :

فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قرَّ عيناً بالإياب المسافر

وأخذت في السؤال عن البيت ، والاستفهام عن كيت وكيت ، حتى أرشدت إليه

ودللت عليه ، وإذ ذاك حملوني ، وعند الدار أوقفوني ، وإذا بأحد الكلاب قد ارتقى الأسوار ، وأخذ في النباح على مشارف الدار ، فأرعبني بنباحه ، وأذهلني بصياحه ، فما كان إلا كحسو طائر ، أو لمعة برق سائر ، حتى اتضحت العلامة ، فقد أشرف وجه أسامة ، وما وقفنا غير يسير ، حتى كاد من فرحته يطير ، وعلم أننا عوَّاد جئنا لأخيه مراد ، فاستدعى من وقته أباه ، ونادى من فوره أخاه ، وأخذنا في العناق ، وبث الأشواق ، والحديث عن الفراق ، وهنأنا مراد بالسلامة

وخصصناه بالملامة ، على ما كان من إسراعه ، وشدة اندفاعه ،وقلنا : يبدو أن نصيحة والديك لم تؤت ثمارها فيك ، وكما قال القائل يا ابن أخي :



وخير الأمر ما استقبلت منه وليس بأن تتبعه اتباعا

ومعصية الشفيق عليك مما يزيدك مرة منه استماعا



ولقد صدق الذي يقول :



فما حسن أن يعذر المرء نفسه وليس له من سائر الناس عاذر



وكما قيل :



إذا ضيعت أول كل أمر أبت أعجازه إلا إلتواءَ



وقلت في نفسي : ولمَ كل هذا اللوم ؟ فلعله مظلوم ، أو جرى بذلك المقسوم ، وإنما الأمر كما قال الشاعر :



تأن ولا تعجل بلومك صاحباً لعل له عــذراً وأنــت تـــلـوم



ولذلك قطعت حبال اللوم ، وأقبلت بوجهي على القوم ، وقلت :



الحمد لله الذي نجـــى لنا من فضله هذا الهمام فعادا

وتجددت في كل بيت فرحة قــد سلم الله العظيم مرادا



فدعا لي بالبقاء ، وكساني حلل الثناء ، ومنحني من جليل شكره ، وعظيم ذكره

وقد كان الفتى حريصاً على العلم ، ومن شابه أباه فما ظلم ، ولله در القائل :



أرى كل عـــــــود نابتاً في أرومة أبى منبت العيدان أن يتغيرا

بنو الصالحين الصالحون ومن يكن لآباء صدق يلقهم حيث سيرا



ثم أقبل علينا الشيخ الوقور ، وجعل بيننا يدور ، بطلعته الزاهرة ، وصورته الباهرة ، وكأنه الموج الهادر ، أو الأسد الخادر ، وما شك أننا أتينا لنعود ،فغمرنا بأمطار الجود ، والقول المحمود ، ونلنا من بنات شفتيه ، وفيض يديه ، ما كنا في حاجة إليه ، وما زلنا في حديث مراد ، وكيف غاب وعاد ، حتى تاقت نفسه

للعلم ، واشتاقت لمسالك السلم ، فأمسك بطوق القلم ، وما انفك بكفه يعليه ، وينشره ويطويه ، حتى أخذنا عنه أشياء ، وحدثنا بأنباء ، ولله در القائل :



وقل من جدَّ في أمر يحاوله فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر



فقلت وقد ارتاحت نفسي ، وعاودني فرحي وأنسي ، سأذكر ها هنا حاجتي ، حتى تبيض دجاجتي ، فقلت على البديهة ، وقد نشطت القريحة :



قلت وقد مسني من بؤسه الزمــن والقـــــوت في رحـم الأيام مرتهن

أطلق سراحي وقيت السوء من قدر ونـالـك الخــيــــر والنعماء والمنن

يا حسن المنـتـضـى في كـل حادثة يا حسن المرتجى للخير يا حسن



وإذ ذاك يا شيخي الجليل ، وجدت في وجهه الارتياح ، وعلائم الانشراح ،

ودلائل الانفتاح ، فقلت : هذا من فضل ربي ، وقد فرج كربي ، فهو لذلك حسبي ونعم الوكيل .

ابنك ذو الوداد /فيصل الحداد



وقد ضحك لها الشيخ طويلاً ، وأعجبه هذا الكلام ،الذي عاد به إلى عصور خلت

وفي مرة أخرى دعاهما محمد الجطلاوي للعشاء عنده ، وقعد الشيخ وقعد صاحبنا غير أن محموداً ( أخا الجطلاوي ) لم يقعد ، بل ظل واقفاً يناولهما الأطباق ، وقال له الشيخ : اقعد لتأكل . فقال : لا أريد ، فكلوا ودعوني واقفاً في خدمتكم ، فقال الشيخ :

أكل الطعام وظل فينا واقفاً ....يا فيصل . أجز ما قلتُ ، فقال صاحبنا :

أكل الطعام وظل فينا واقفاً كأنه بين الرجال خــــــطيبها

في خطبة قد بدِّلت كلماتها قطع الجفان من اللغات غريبها

يهديهم سبل السلام بجفنةٍ بيضاء حفــت بالـبقول حبوبها

فــكــــأنه لما كساها حمرة شمس دعاها للأصيــــل غروبها



وقال له يوماً : زرني في بيتي إذا شئت ، فقال له : سأمر عليك ، ولما أدار الشاعر محرك سيارته لم يعمل كما جرت العادة ؛ لكثرة البرد ذلك اليوم ، ثم عمل فجأة فجاءه وهو يقول :



وقلت لقربــكــم أسعـــى لعلي ألاقي في فـــــراق الأهــل أهـــــلا

فأرعدت السحائب واســتهلت بـــوبــــــل أغــــرق الأحياء هملا

فما سيــــارتي صدعت بأمري ولا شــوقــي يــطــاوعــنــي فأسلا

أرى عبد الرحيم يزيد حســناً ذراه مــن يـــــــد الجـــوزاء أعلى

أمن عـبـد الرحيم أطـيـق بعداً وقــد شـغــــــل النفوس فقلت كلا

إذا ما زرتــكــــم يــوماً رأيت مــعـــــادن أنفس تـــــــزداد نبلا

فقلت لخاطري ورسيس شوقي لـعــلـك زائــــري يــومـــــــاً لعلا



فلما سمع الشيخ هذه الأبيات ، قال : سأزورك ، فقال : وأنا في انتظارك ، ولما قعدا للعشاء أخذ الشيخ يداعب الشاعر ببعض الأبيات فقال له : بعد العشاء سنقول ما تطرب له ، فقال : لابد أن شيطان شعرك نائم !

" أكل الطعام وفر منا نائما "

عندئذ قال الشاعر :

وأتيتني من بعد شــــــوقي زائـــراً أهـــــلاً وسهـــلاً بالأحبة دائما

كــم سرني لمــــا جلـــــسنا ساعة ويـــد الســـرور تزيح جواً قاتما

وبدا لوجــهـــــك في المساء شواهد لمــعـــت كبرق الخافقين غمائما

قــد قلـت لي شيطان شعرك ما له " أكـــــل الطعام وفر منا نائما "

فأجبتكم حصــــر الخبيث بقربكم تالله يـشــــدو في حضورك ناظما

عبثاً أحــاول ياخلــيــــــلي دفعه كـيـمــا يــقــول فغاظني وتناوما



فضحك لتضمينه شطر بيته في الأبيات ، وقال : أي شيء في هذا الطبق المغطى ؟

فقال : أفخاذ دجاج محمرة ، فمد يده إلى الطبق وقال : لا تأكل منه حتى تصفه

فقال الشاعر : فدعني أتأمله ! قال : لك ذلك ، فلما تأملته ملياً قال :



وُضِــــع العشاء فـقـلـت يا سـبــحــان ربـي كـم خلـق

فـــخـذ الــدجــاج كــأنـه نـــــور تـــلألأ في الطــبـق

قــد كــاد مــــن نـفـحاته ونــضـوجــــه أن يـحـتـرق

أكـــرم بهــا مـن هـــبـرة حــمـــراء في لـــون الشفـق

وأخــذت في قــضـم الدجا جة مسرعــاً خـوف السبق

فـطـلـبـــــت مني وصفها وأنــا أعــالــج في المـــــرق

فــهـتـفــت فـيــكم قائلاً وطــويــتــها طــي الــورق

شـيـطــان شــعــري نائم تــعــب أصـيــب من الأرق

فضحك وقال : كلْ بارك الله لك فيه .



ولما زاره في مكتبه ، وكان إذ ذاك قد تحوَّل عن عمادة الكلية إلى رئاسة القسم ،

وجد كثيراً من الطلاب قد التفوا حوله يسألونه عن بعض الإجراءات الإدارية



وهو يجيبهم بصوته المتميز وهدوئه المألوف ، فقال صاحبنا :

قضيت بحق الطالبين جميـــعهم وآنستهم عــبـــــد الرحيم بفضلكا

بوجه كأن الشمس في قسمـــاته يفوح الــتـقى من صفحتيه ممسَّكا

نظــرت بعـيـن يـا رحيم إليهم أفــاضت لعمري من حنانك دمعكا

أشرت إليهم أن يعيدوا سؤالهم فقد يفتـحو من ذلك السؤل مسلكا

فـعـاجوا فـقالوا يا أبانا هديتنا وهل يلتقى في ذا الــزمـــان بمثلكا



وفي إحدى المرات كان الدكتور عبد الرحيم في شرفة شقته ، بصحبة ابنيه الباحثين الحداد والجطلاوي ، وكان يحب أن يجلس فيها قبيل الغروب ، ليتمتع بغروب الشمس ، جالساً على أريكة من قصب تزيد من متعته ، وأمامه بعض نباتات الظل ، وفي يده كأس من الشاي ، وتكتمل النشوة بصحيفة أخبار يطالعها ، مع ابتسامة ساحرة ترتسم على محياه الطلق ،وفجأة سمعوا صوتاً داخل الشقة ، ولم يكن أهله بها ، فاستغرب الأمر ودخل ليعود بعد قليل ، وهو يبتسم ، وقال : أتعرفان ما هذا الصوت ؟ قالا : لا . فقال : هذا رف قد وقع في المطبخ ، فسقط على البوتاجاز ، ووقع كل ما فوقه !

قالا : فما الذي فوقه ؟ قال : بعض الأكواب والشاي والبن والجبن والزيت والسمن والصابون ، قالا : فما فعلتَ ؟ قال : لقد أحضرت قطعة من القماش ونظفت المكان والفرن . أما الجطلاوي فقال : لا يمكن أن يقع الرف وحده ، فقد يكون وراء هذا الأمر هرة أو عفريت من الجن قلبه بما فيه !

فضحكا لقوله ، فقال د. عبد الرحيم : لابد أن تذكر ما حدث في أبيات ترتجلها

فقال الشاعر :

لما سمـعـنـا من الدهـلـيـز فـرقـعة وحـار في فـهمـهـا التخميـن والظن

وعـاد بالخبر المعــلوم صــــــاحبه قد أسقط الرف والأكـــــواب والبن

والجبن والشاي والإبريق فاختلطت وزادها الـــزيت والصابون والسمن

قد أصبحــــت خلطة حمراء قانية فيها الزجاج فتم اللــون والحسـن

قــلــنا وقـد هالنا من أمره عجـب هــــذا الذي تفعل السنور والجـن

فأصبحت يدك البيضاء حـــــائرة أتمسح الأرض ؟ أم هل يمسح الفرن ؟

أم الزجاج من الأخــــــلاط ترفعه يستــعـمل الشاش أم يستعمل القطن



فضحك الشيخ حتى كاد يقع ،وقال : كيف تأتّى لك أن تركِّب هذا كله في عدة أبيات ؟



وقد كان لشاعرنا حنين إلى الوطن ، وقد يشده حنينه فيستغرق في ذكرى أحبابه في ليبيا ، غير أنه لم يتلق منهم رسالةً أو هاتفاً ، مما أحزنه جداً ، وليس له في طنطا غير الجطلاوي والدكتور عبد الرحيم فقال معاتباً أهله :

أفي كــل يوم أنــت تذكر صاحباً وتدعــــــو رفيقاً أو تنادي أقاربـا

وحيداً بطنطا قد دهـيــت بغربة تـــنـــادي خيالا بالمحبة غائـبـا

جــفــــاك أناس لا تلين قلوبهم كـأن على الجنبين منهم قواضـبـا

تــمــر الليالي والسنون ولا ترى حبيباً بكى من لوعة الهجر نادبـا

ولو أن خالاً بـــعد هجر أجابني وأرضى فــؤاداً دائم الوجد عاتبا

أجاب بصــدق مـــا يقول فربما فــرشنا له من ذلك القلب جانبا

فيا صاحبي طنطا حرام عليكـما بأن تمـنـعا وصل المحبة صاحبا

ذراني وحيداً في البــــلاد فربما ألاقـي من الرحمن أنساً مصاحبا

وإلا خـــذاني بــارك الله فيكما ولا أبــتــغـــي إلا الأخوة جاذبا



وفي إحدى المرات ، طرق الشاعر شيخه وهو في فسحة صيفية في شقة له أخرى بالإسكندرية ، ورحب به طويلاً ، ووجده يجلس على أريكة من قصب ، فحدّثه عنها وقال : هذا الكرسي لا يطيب لي القراءة إلا عليه ،وقد كتبت عليه الماجستير والدكتوراه ، وهو يحملني كما ترى ، فقال شاعرنا : إذا كان أثيراً عندك إلى هذا الحد ، فما عساه أن يقول إذا نطق ؟ قال : لعله يقول :



كفاك قراءة فاترك سبيلي فإني قد سئمت جلوس يومي

أجزه .. فقال الشاعر :



أما لك في كراسٍ حادثات كأن أديمها من صنع رومي

مآرب لا أقضيها كفـاني حملتك ساهراً من دون قومي



فقال الشيخ : اكتب هذين البيتين قبل أن ننساهما ، وناوله قلماً فلما أراد أن يكتب به لم يجد به حبراً ، ولم يكتب شيئاً فقال الشيخ عبد الرحيم :



أبى القلم الشقي بأن يكون حــريـــصاً لـلـكـتـابـة في يديه



فقال شاعرنا :



وفي الأمثال قالوا قول صدق فخذه يا خليلي من نبيه

فما القلم الرديء بغير شك سوى ولــــد يعق بوالديه





وسأله الشيخ : متى تذهب إلى أهلك وولدك ؟ فقال : قريباً ، فقال : إذا ذهبت فقل لوالدك :

وأنهيت الرسالة في عجالة لتأتيك البشـــارة بالنجاح



فقال شاعرنا مكملاً قوله :



فتفرحَ بالنجاح وعن قريب أجالس جمعَكم حتى الصباح

فما نفع الكفاح بلا حـيـاة وما نـــفــع الحياة بلا كفاح



فقال : يا بني :



سيأتي لك الرحمن يوماً بكنزه وتفتـح أبواب السماء الغوالقُ

فقال الشاعر :

وتخرج من طنطا العزيزة غانماً وتأمن من كرب علاه المزالق



وزار الشيخ يوماً فابتهج بقدومه وقال :



ادخل هداك الله إنك زائري ومبشر باليسر في الأقـــوال



فقال الحداد : وكيف أبشرك باليسر في القول ؟ قال: لا أدري ، فكلما رأيتك ينطلق لساني بالشعر ، ويبدو أن لك أتباعاً من شياطين الشعر الأشداء ! ثم قال :





جلوسك يأتي والشيطان قرين وأنت جلوس في القلوب مكين



فقال الشاعر : أعوذ بالله من الشياطين ، بل يأتي والملائكة قرين :



جلوسيَ يأتي والملاك قرين فما ليَ جن يا رحيم خدين



وأخذه الشيخ معه في سيارته الشيف إلى كلية التربية ، فقال :



أنا لن أغيب عليك حتى لا تــــظـــنَّ بيَ الظنونْ

فقال شاعرنا مجيزاً له :



قم وارتقبني في الظلا ل ، فها هنا ثم السكونْ

قد آتك بعد الغـــذا ء وربــمـــــا هذا جنونْ

فاصبر علينا طائـعاً فالصبر أحسن ما يكون



ولما عاد ، ما لبث أن دخل للعزاء على آخر ، وقال : دقيقة واحدة :



وعـلــمــت أن شـقـيـقـه قد صار ذكرى بعد عين



أي مات ، فقال :

فالله يجــــزي أهـلــه خيراً كما رزق الحسينْ


وفي مرة أخرى وصلت إليه منه رسالة ، وكان قد طلب إليه أن يحجز له ظهر يوم



السبت في إحدى وسائل المواصلات ، ثم خطر له أن يجعل الحجز في المساء

وطلب أن يلتقي به وبالجطلاوي غداً ، وقت الضحى في كلية الآداب ،وأن يحضرا معهما نسخ الأطروحتين معاً ، وكانت أطروحة الجطلاوي في أدب الكهان ، فكتب معبراً لهما عن هذه المعاني :



يُعَدّلُ الحجز يوم السبت من ظهرٍ إلى المساء فـــــــإني أنشد الراحهْ

والموعد الملــتـــقى في الصبح كلية هي الآداب الضحى في أيها ساعهْ

واحضر العدد المطلوب تحــمــله من الرسائل تودعها لدى الساحهْ

واخبر صديقك يأتي حاملاً معـه رسائـــل الـكهن تأديباً وإصلاحـا



ففهم الشاعر عنه ما أراد ، وإن كان لسرعة الارتجال لم يتقن القافية ، فأجابه برقعة كتب فيها : أيها الشيخ الطيب !



وقت الضحى مبهم لم ندر أولــه عند الشروق ، ظهور الناس والباعهْ

والموعد الواجب التنفيذ أحــسبه محدّد الوقـــــت لا في أيها ساعهْ

أما الرسائل ياشيخي العزيز فقد تأتيك تسعــــاً وهذا منتهى الطاعهْ

أما محمد عند الصبح أخبره يأتي إليك صبــــاح السبت في القاعهْ

مهما يكن حسن يا سيدي نعم فأمركم واجب الـتـنـفـيـذ في الساعهْ



وفي يوم آخر تناهى إليه أنه يطلبه ، فجاء إليه فوجده غاضباً من معاملة بعض البنوك ،لأنهم يعرفونه ومع ذلك أرهقوه بالانتظار،فعاد إلى بيته وهو يقول:



فبئس القوم من كانوا ببنك يقال له كبير بنوك طـنـطهْ



فقال للشاعر : قل لي أبياتاً على حرف الطاء في هجاء هذا البنك ، فلعلها تشفي ما بي ، فقال : حرف الطاء ! قال : نعم ( طهْ ) ووفي نفسي شيء لعلك تصيبه ،

فقال الشاعر :

بُنَيْكٌ لا يساوي بعر شاة وأهون من فسا عنز وضرطهْ

أأصبح كلما أودعت مالي مع الصرّاف في بؤس وورطهْ

فـقـبحـه الإله حفيظ قوم عـلـيـه لـعـنة الله وسخـطهْ

فاستفرغ ضحكاً حتى استلقى ، وقال : اذهب لا بورك فيك ، قاتلك الله من خبيث ، والله لقد أتيت على ما في نفسي ، وأصبت ما أريد .



وكتب الشاعر بعد ذلك إهداءً على بعض كتبه للدكتور عبد الرحيم زلط وهو قوله :



زرعت مآثراً وغرست علما وحقك لا أرى يحصيه عدُّ

وقد كانت لنا عند التلاقي مـبـاهـج فــرحـة فيه وودُّ

فإن كان الوداد له حــدود فـلـيس لـــودنا والله حـدُّ



وانقطع عنه إلى أن عاد إل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الزلطيات
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
تجمع شعراء المغرب :: منتدى المقالة-
انتقل الى: